فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب.
وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعي أن كل الطعام كان حلًا ثم صار البعض حرامًا بعد أن كان حلًا والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حرامًا أبدًا.
وإذا عرفت هذا فنقول: الآية تحتمل وجوهًا:
الأول: أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن {كُلُّ الطعام كَانَ حِلًا لّبَنِى إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل على نَفْسِهِ} فذاك الذي حرمه على نفسه، كان حلالًا ثم صار حرامًا عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ، فبطل قولكم: النسخ غير جائز، ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه، بل زعموا أن ذلك كان حرامًا من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، فعند هذا طلب الرسول عليه السلام منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه، فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم:
أحدها: أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ، وهو لازم لا محيص عنه.
وثانيها: أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة، ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى.
وثالثها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رجلًا أُميًا لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم.
الوجه الثاني: أن اليهود قالوا له: أنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبأنها مع أن ذلك كان حرامًا في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الشبهة بأن قال: ذلك كان حلًا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك، فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبأنها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام.
الوجه الثالث: أنه تعالى لما أنزل قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} [الأنعام: 146] وقال أيضا: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاءً لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حرامًا غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه، فشق ذلك على اليهود من وجهين:
أحدهما: أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة، وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه.
والثاني: أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال، فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة، بل زعموا أنها كانت محرمة أبدًا، فطالبهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا، فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم. اهـ.
وقال الفخر:
قال صاحب الكشاف {كُلُّ الطعام} أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام وأقول: اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا؟.
ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده، واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: أنه تعالى أدخل لفظ {كُلٌّ} على لفظ الطعام في هذه الآية، ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك.
وثانيها: أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ} [العصر: 2، 3].
وثالثها: أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع، فقال: {والنخل باسقات لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقًا لّلْعِبَادِ} [ق: 10، 11] فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب الكشاف، أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم، وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب الكشاف. اهـ.
وقال الفخر:
الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل، وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه أنه اسم للبر خاصة، وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه، لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه، والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئًا سوى الحنطة، وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} [البقرة: 249] وقال تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 5] وأراد الذبائح، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما لنا طعام إلا الأسودان، والمراد التمر والماء.
إذا عرفت هذا فنقول: ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلًا لبني إسرائيل ثم قال القفال: لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام، وكذا القول في الخنزير، ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كان محرمة على إبراهيم، وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق، بل للعهد السابق، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ في مَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أن يكون مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزير} [الأنعام: 145] فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية. اهـ.
وقال الفخر:
اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه:
الأول: روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن يعقوب مرض مرضًا شديدًا فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبأنها» وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل.
والثاني: قيل أنه كان به عرق النسا، فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئًا من العروق.
الثالث: جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر، ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة، أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث بردًا إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير، فانصرف الرسول إليه، وقال: إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب وحزن جدًا وصلّى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النسا، فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق. اهـ.

.قال الماوردي:

واختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه هل كان بإذن الله تعالى أم لا- على اختلافهم في اجتهاد الأنبياء... على قولين:
أحدهما: لم يكن إلا بإذنه وهو قول من زعم أن ليس لنبي أن يجتهد.
والثاني: باجتهاده من غير إذن، وهو قول من زعم أن للنبي أن يجتهد.
واختلفوا في تحريم اليهود ذلك على أنفسهم على قولين:
أحدهما: أنهم حرموه على أنفسهم اتباعًا لإسرائيل.
والثاني: أن التوراة نزلت بتحريمها فحرموها بعد نزولها، والأول أصح. اهـ.

.قال الفخر:

ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه، وفيه سؤال: وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى، فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سببًا لحصوله الحرمة.
أجاب المفسرون عنه من وجوه:
الأول: أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئًا على نفسه فإن الله يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق، ويحرم جاريته بالعتق، فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئًا على نفسك فأنا أيضا أحرمه عليك.
الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم، فقال بحرمته وإنما قلنا: إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه:
الأول: قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} [الحشر: 2] ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار.
والثاني: قال: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح.
والثالث: قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فلو كان ذلك الإذن بالنص، لم يقل: لم أذنت، فدل على أنه كان بالاجتهاد.
الرابع: أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة، فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لاسيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر، ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته.
والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرّم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال: الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا هاهنا.
الثالث: يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا، فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم.
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصًا بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].
الرابع: قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرًا للنفس وطلبًا لمرضاة الله تعالى، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم.
الخامس: قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب، وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه. اهـ.
قال الفخر:
ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل، وذلك لأنه تعالى قال: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلًا لّبَنِى إسراءيل} فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل، ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه، فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حرامًا على بني إسرائيل والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة}:

قال الفخر:
أما قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلًا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرّمه إسرائيل على نفسه، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعًا كثيرة، روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعًا من أنواع الطعام، أو سلّط عليهم شيئًا لهلاك أو مضرة، دليله قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين}:

.قال الفخر:

{قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين} وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجودًا من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم، وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه، فنازعوه في ذلك، فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول، وعلى كلا الوجهين، فالتفسير ظاهر، ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية، وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله، ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا: لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه، لأنا نثبته بالقياس، ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي، وإنما وقع في أن هذا الحكم، هل كان موجودًا في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا؟ ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص، فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بنص التوراة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}.
قل: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: فأتوا محذوف تقديره: هذا الحق، لا زعمُكُم معشر اليهود.
فأتوا: وهذه أعظم محاجة أَن يُؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم، فإنه ليس فيه ما ادّعوه بل هو مصدّق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم: من أنّ تلك المطاعم كانت حلالًا لهم من قديم، وأن التحريم هو حادث.
وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها، بل بهتوا وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم.
وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجةُ الواضحة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان عليه السلام النبيّ الأميَّ الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصًا.
وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع، وهم ينكرون ذلك.
وخرج قوله: {إن كنتم صادقين} مخرجَ الممكن، وهم معلوم كذبهم.
وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك: إنْ كنت شجاعًا فالقني، ومعلوم، عندك أنه ليس بشجاع، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به. اهـ.

.قال ابن عادل:

الحِلّ بمعنى: الحَلالَ، وهو- في الأصل- مصدر لِحَلَّ يَحِلُّ، كقولك: عز يعز عزًّا، ثم يطلق على الأشخاص، مبالغة، ولذلك يَسْتَوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموعُ، والمذكَّرُ والمؤنثُ، كقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وفي الحديث عن عائشة: كُنْتُ أطيِّبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لِحِلِّه ولِحَرَمِهِ، أي لإحلاله ولإحرامه، وهو كالحرم واللبس- بمعنى: الحرام واللباس- وقال ابن عباس- في زمزم-: هي حِلٌّ وبِلٌّ. رواه سفيان بن عُيَيْنَة، فسئل سفيان، ما حِلّ؟ فقال: محَلَّل. و{لِبَني}: متعلق بـ {حِلًا}.
قوله: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ} مستثنى من اسم {كَانَ}.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون مستثنًى من ضمير مستتر في {حِلًا} فقال لأنه استثناء من اسم {كَانَ} والعامل فيه: {كان}، ويجوز أن يعمل فيه {حِلًا}، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلًا وحلالًا في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح.
وفي هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه متَّصل، والتقدير: إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، فحرم عليهم في التوراة، فليس فيها ما زادوه من محرمات، وادَّعَوْا صحةَ ذلك.
والثاني: أنه مُنْقَطِع، والتقدير: لكن حرم إسرائيل على نفسه خاصَّةً، ولم يحرمه عليهم، والأول هو الصحيح.
قوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بـ {حَرَّم} أي: إلا ما حرَّم من قبل، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان: ويبعد ذلك؛ إذ هو من الأخبار بالواضح؛ لأنه معلوم أن الذي حَرَّم إسرائيل على نفسه، هو من قبل إنزال التوراة ضرورةً؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة.
والثاني: أنه يتعلق بقوله: {كَانَ حِلًا}.
قال أبو حيان: ويظهر أنه متعلّق بقوله: {كَانَ حِلًا لبني إسرائيل}، أي: من قبل أن تُنَزل التوراة، وفصل بالاستثناء؛ إذْ هو فَصْل جائز، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن، في جواز أن يعمل ما قبل {إلا} فيما بعدها إذا كان ظرفًا أو مجرورًا أو حالًا- نحو ما جلس إلا زيد عندك، ما أوَى إلا عمرو إليك، وما جاء إلا زيد ضاحكًا.
وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقًا، نحو ما ضرب إلا زيدٌ عمرًا؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع، نحو ما ضرب إلا زيدًا عمرو، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن، فَيُقدَّر له عامل من جنس ما قبله، تقديره- هنا- جل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة.
وقرئ: {تُنَزَّلَ التوراة} بتخفيف الزاي وتشديدها، وكلاهما بمعنى واحد، وهذا يرد قولَ من قال بأن {تنَزَّل} بالتشديد يدل على أنه نزل مُنَجَّمًا؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين. اهـ.